PopAds.net - The Best Popunder Adnetwork الكيس الأسود

الكيس الأسود

الكيس الأسود
الكيس الأسود

الكيس الأسود

بقلم: أحمد فؤاد الهادي

 كأن سكينا قد شق بطن المدينة من الشرق إلى الغرب، فأخرج أمعاءها وفضلاتها وعفنها، فكان هذا الشارع العريض الذي امتلأ نهره بكل صنوف الفوضى، وامتدت المحلات والمقاهي بطول جانبيه محتلة رصيفاه، بل امتد اعتداؤها ليقتطع أجزاء يسيرة من نهر الطريق، فبدت المحلات كأوكار غائرة، كنت أدخن آخر سجائري وأنا أواسي نفسي وألهيها عن كل ما حولي.  فشلت في شراء سجائر من هذا الشارع الكئيب، الكل يرد على طلبي بازدراء واستنكار: "ما فيش سجاير...حرام".

 فررت إلى داخلي، وتملكني إحساس بأنني لست واحدا، أنا كثير جدا، كلهم ضاقوا بفرط التسيب    وضياع الحقوق، قررت أن أقف صفوفا صفوفا، ولتمتد صفوفي بطول هذا الشارع، ثم لتندفع في تماسك وقوة مزيحة أمامها كل هذه الموبقات، أفقت، تلفت يمينا ويسارا، فراغ يحيطني، ألوذ بثيابي وأمضي صاغرا متحسرا، مازلت أسأل عن السجائر، ومازالت الإجابة: حرام.

هذا محل لبيع الدواجن، قد امتد ليحتل الرصيف بالكامل بأقفاص يعرض فيها بضاعته، صبي ممسك بخرطوم يندفع منه الماء على أرض المحل ليغسلها من مخلفات بضاعته ودمائها، أبو زينب – صاحب المحل – شاب ثلاثيني هادئ، شغلت بملامحه وحركاته وتحركاته بين داخل المحل وخارجه، كثيرا ما يرد على هاتفه الجوال ويملي شخصا آخر داخل المحل، طلبات "الدليفرئ" كثيرة، هو لا يعرف القراءة ولا الكتابة، و لكنه يجيد "الدليفري".

قررت أن أنتزع نفسي من هذا الشارع، وأن ألجأ إلى أبي زينب فأشتري دجاجة أو اثنتين، الرجل ذو أدب جم، يتحدث همسا، أحضر لي كرسيا من المقهى المجاور، أصر أن أشرب شايا، ثم عاد ليتابع عمله.

من داخل أحد الأقفاص، تناهى إلى سمعي صوته و هو يحكي لرفاقه قصته، رغم أنه لم يتذوق طعم الحرية، إلا أنه كان تواقا إليها بالفطرة، فمنذ أن دبت فيه الحياة في الظلام الحالك داخل تلك البيضة التي كانت هي كل عالمه آنذاك، و هو يشم رائحة الحرية و لكنه لا يراها، فلما لاحت له هالة خافتة من ضوء في أحد أركانها، نقرها بمنقاره الغض فأحدث فيها شرخا ضعيفا، فعاود النقر مرات و مرات حتى صار الشرخ شروخا متقاطعة، و سرعان ما نهار جزء يسير من جدار سجنه، نفذ منه ضوء الدنيا ليصافح عينيه لأول مرة، و ظن أنه قد ظفر بحريته، أو أنه على وشك الظفر بها.  تسارعت الدماء في عروقه، ودب النشاط في أوصاله، فاستجمع قواه وأخذ يدفع برجليه وجناحيه مهشما جدار سجنه الرقيق، ثم زاحفا فوق ركامه، ليفاجأ بأنه ليس وحيدا، وأن عشرات مثله قد عانوا ما عانى، وفازوا بما فاز.  تلاصقت الأجساد الصغيرة  حتى بدت كجسد واحد نتأت منه عشرات الرؤوس التي تتلفت في عشوائية و كأنها جميعا تبحث عن أب لها أو أم، يكتكتون فيملأون سكون المكان بضجيجهم الضعيف و كأنه نابع من زغبهم، أما صاحبنا، فقد علا صوته على الجميع، فصمتوا، فإذا ما كتكت كتكتوا بعده، مظاهرة هو قائدها، كان أكثر منهم ثباتا و قوة، يطل عليهم من عل، فله عنق طويل عار من الزغب حتى الرأس، عندما اشتد عوده أطلق عليه عمال المزرعة لقب "الشركسي"، ديك شركسي، هكذا جرى العرف في الريف: أن يخلعوا هذه الكنية على كل ديك ذي عنق طويل عار من الريش.

 ها هو الشركسي قابع في القفص الحديدي أمام المحل، رأيت الشغف والاهتمام في عيون الدجاجات والديوك وهم يتابعون الشركسي وهو يأتي بحركات انفعالية معبرة عما يحكي من أحداث عاشها خلال الشهرين الماضيين، كل عمره، وكلما حدثهم عن الحرية التي كان ينتظرها، بدا كمن يجهش بالبكاء، فكم من مرة اعتقد أن الحرية وشيكة كلما فتح أحدهم باب محبسه، وكلما نقل من مكان لآخر، ثم لا يلبث أن يكتشف أنه إنما ينقل من سجن إلى سجن، وها هو قد استقر هنا، في هذا السجن الذي يبدو أنه الأخير.

سيدة سمراء ممتلئة، تسحب ابنتها العائدة من مدرستها، تمر بالكاد من بين الأقفاص بعرض الرصيف، تدفع ركبتي بحقيبة يدها وهي في طريقها إلى داخل المحل، تصيح:

- فرختين كل واحدة كيلو ونص يا محمد.

ثم تنتحي بابنتها في ركن بين الجدار والأقفاص، لم أتلصص ولم أتنصت، ولكن كلماتها كانت تعبر من بين الأقفاص حتى تحتك بمسامعي:

يبقى تروحي تعملي واجب الانجليزي على ما أجهز الغدا ... تتغدي وتروحي درس العلوم..    وتعملي حسابك ما تتأخريش عشان درس العربي.. وبالليل أذاكر معاكي الرياضة.. عشان الدرس بكره الساعة تسعة الصبح.

عند هذا الحد، قفز عصفور في رأسي، نقر في أرجاء الجمجمة: المشكلة ليست الشارع فقط، مرت دقائق حتى كَلَّ العصفور وسكن، هدأت حرارة الجمجمة، عدت إلى الشارع وأبي زينب والشركسي.

فتاة في ريعان شبابها، ملائكية الوجه بلا "مكياج"، هادئة الملامح، كل شيء فيها يوحي بفرط أدبها، ملابسها متواضعة، ولكنها نظيفة ومهندمة، لم تلتفت إلى معروضات أبي زينب، وقفت صامتة منزوية، أحسست أنها تريد أن تقول له شيئا بحيث لا يسمعها الآخرون، أدرت رأسي نحو الشارع، اقترب منها أبو زينب، همست إليه:

نص كيلو رجول ياعم محمد.. وامي هاتفوت تحاسبك بالليل.

صدمتني بطلبها الغريب، عاود العصفور النقر في الجمجمة: المشكلة ليست في الشارع فقط، الشركسي يندفع بعصبية، يمد رقبته الطويلة من بين أسياخ القفص، نظر إلى الفتاة التي كانت تطالع أرض المحل وكأنها تحصي بلاطاتها، صاح الشركسي في وقت لا تصيح فيه الديوك، سحب رأسه متراجعا خلف القضبان، تجمعت حوله بعض الدجاجات مندهشات لصياحه، التفتت إليه إحداهن وعيناها تتساءلان عما ألم به، فغر منقاره بالدهشة:

- تصوري.. هذه المسكينة عايزة رجول!

- أنا خايفة تاخد رجول "باتعة" اللي دبحها من شوية.. دي كان عندها هشاشة عظام.

- أو يديها رجول "إش إش" ... كان عنده خشونة في المفاصل.

- المسكينة لو صابها المرض مش ها تلاقي حد يعالجها.

تنامى القلق في قلب الشركسي، فعاد وأخرج رأسه تحملها رقبته الطويلة، رمى نظره إلى حيث يعبئ أبو زينب الرجول للفتاه، كاد الشركسي أن يسقط من طوله، فتلك رجول "إش إش"، نعم هي، فمازالت تحتفظ بأثر هذا الجرح الذي أصيبت به في إحدى مشاجراته مع ديوك المزرعة، لم يجد سبيلا لمنع الكارثة سوى معاودة الصياح، التفتت إليه كل الدجاجات والديوك واشرأبت الأعناق في كل الأقفاص، ولكنه كرر الصياح، فالتفت إليه أبو زينب متعجبا، نادى صبيه:

- هات الشركسي المزعج ده خلينا نخلص منه.

بعد دقائق، كان الشركسي ممددا في كيس أسود وقد فقد رأسه وكل ريشه، ولكن عنقه بدا أكثر طولا.

الرئيسية