PopAds.net - The Best Popunder Adnetwork إنسانية

إنسانية

إنسانية
إنسانية


إنسانية

بقلم: أحمد فؤاد الهادي

لم يكن الأستاذ خيري متحمسا للانصراف من مكتبه عندما أشارت الساعة المعلقة على الجدار المواجه لمقعده إلى موعد الانصراف، الرابعة عصرا، فقد شعر بأنه في حاجة إلى بعض الاسترخاء والهدوء بعد يوم حفل بالمناقشات التي تحفها الخلافات والجدل والتي تمثل شيئا طبيعيا في مهمته ومهمة من يعملون معه في تلك الإدارة المسئولة عن تقدير وصرف تعويضات متضرري الكوارث الطبيعية والحوادث الجسيمة.

تعلم من وظيفته الكثير، فلا فرق بين متعلم وأمي، ولا غني ولا فقير عندما يتعلق الأمر بالنقود، غالبيتهم يتفنن في تعظيم مطالبته والمبالغة في وصف الأضرار، وفي سبيل ذلك فإن الكثير منهم لا يمانع في تقديم البيانات والمستندات التي تعزز ادعائه والتي يعرفون كيف يحصلون عليها من الجهات المختلفة مقابل جنيهات قليلة لا تقارن بما يتوقعون الحصول عليه بموجبها من مبالغ كبيرة، فيشترون من أجلها الذمم.

تعلم أيضا أن الكثيرون ليس لديهم مانع من القسم بأغلظ الأيمان، وأحيانا بالطلاق ليؤكد صحة ما يدعيه، رغم كذبهم الذي تؤكده التحريات والمستندات.

كان الأستاذ محسن يعيش هذا الجدل معظم ساعات النهار، ولكنه لم يكن ليأبه به، فخبرته تساعده على تمييز الطيب من الخبيث، فيقابل الانفعالات المصطنعة بهدوء حقيقي، ويظل صابرا حتى يرسخ الحق ويثبته.

كانت العبارة الشهيرة المكررة التي يسمعها من العاملين معه في نهاية كل يوم:

- كان يوما شاقا، توترت فيه الأعصاب، وهاجمنا الصداع.

ولم تعد مثل هذه الأمور غريبة عليهم، فقد ألفوها وتعودوا عليها وأجادوا الصمود أمامها، وكانوا ينظرون إلى اللافتة المعلقة في مكان واضح وتقول: المواطن دائما على حق، فيبتسموا و يتبادلوا نظرات يعرفون معناها.

أسند ظهره وتمدد في مقعده وأغمض عينيه وغفا قليلا قبل أن يقوم ويشرع في لملمة حاجاته ويتخذ طريقه مغادرا مكتبه. لم يخطر بباله أن يستخدم المصعد ليهبط به الأدوار التي تفصله عن باب العمارة، فقد مل الجلوس إلى مكتبه معظم اليوم وهاهي الفرصة لتحريك مفاصله، فأخذ طريقه إلى الدرج هابطا حتى لمح موظف الأمن فوقف يداعبه بكلمات خفيفة كعادته كل يوم قبل أن يودعه متجها إلى حيث تقف سيارته في روتين يومي اعتاد عليه دون ملل.

كانت الساعة تقترب من الخامسة، والطريق يشهد كثافة وعشوائية ولا أثر لأي سلطة متواجدة للسيطرة على حركة السيارات وتنظيمها، وأصبح كل قائد سيارة كقائد في حرب متعددة الأطراف، أو كلاعب في لعبة إلكترونية عليه أن يصل بسيارته إلى الهدف المحدد لها وسط هذا الزخم والفوضى.

لم يكن المشهد غريبا على خيري، فقد اعتاد عليه في معظم الأيام، إلا أنه في هذا اليوم بالذات شعر بأنه ليس لديه المزيد من التحمل ليكمل اللعبة السخيفة التي كثيرا ما يضطر إليها حتى يبلغ بيته.

خطر له أن يسلك طريقا آخر، يتجه إلى المتجر الكبير القريب من مقر عمله، لعل الحال قد يهدأ بعد حين وتسهل الحركة، وأيضا ليستمتع بهوايته في التسوق.

ما أن اتخذ طريق المتجر حتى شعر بالفارق الكبير، فالطريق سهل ميسر حتى إذا بلغ المتجر اكتمل ارتياحه عندما وجد مكانا في الجهة المقابلة ليترك فيها سيارته في أمان.

خطا خطوات قليلة متجها إلى باب المتجر، أستوقفه ما زحم عينيه وشتت أفكاره: رجلان يجذبان شابا بينهما من ذراعيه حتى كادا أن ينزعانهما من كتفيه بقسوة واضحة، وجمع من الناس ينهالون عليه ركلا ولكما وسبا، والمسكين كمن سقط في بئر قد نضب ماءه فتلقفته الحجارة بلا رحمة.

ترامى الى مسامعه أنهم قد أمسكوا به وهو يحاول أن يفتح سيارة أحدهم. وكـأنه لم يسمع ولم ير. فوسط كل هذا الضجيج تصيدت عيناه عيني الشاب، فلم يعد يرى إلا وجه هذا الشاب المسكين، وكأن الشاب أيضا لم يكن يرى إلا وجه خيري.

صاح الشاب فيه راجيا، بل متوسلا:

- الحقنى يابيه.. هايموتوني.

سأل خيري نفسه في حيرة: لماذا أنا بالذات؟ ولم يفكر في الإجابة، فقد غلبته دموعه ووجد نفسه مندفعا في اتجاه الشاب المسكين، وحتى يصل إلى حيث كان، فقد نال نصيبه: بعضا من الركلات واللكمات، والتي كان يشيح بوجهه يمينا ويسارا محاولا تفاديها، ويحرك ذراعيه في عشوائية كمن سقط في البحر وهو لا يعرف السباحة، حتى وصل إلى الشاب، فارتمى عليه واحتضنه وأخذ يلهث بعدما توقف الآخرون عن الضرب، فلما استجمع بعضا من قواه صاح فيهم:

- حرام عليكم.. مية بيضربوا واحد؟! ما فيش رحمة؟! يعني هو كان سرق؟!

همهم الجمع وتصايحوا واختلطت أصواتهم وهم يتفرقون مبتعدين عن المكان، وخيري مازال محتضنا الشاب وهو يربت على ظهره مطمئنا إياه، حتى هدأ روعه فانحنى الشاب محاولا تقبيل يده فسارع بسحب يده قائلا:

- استغفر الله العظيم.

عدل من ملابسه التي نالها الكثير، واتخذ طريقه إلى باب المتجر وقد أفرغ الكثير من شحنات كانت كامنة في صدره، وانتابه ارتياح غامر بعد هذه الواقعة الغريبة والتي لم تكن لتخطر له على بال، وشعر أنه كان إنسانا كما يحب دائما أن يكون.

امتلأت عربة التسوق التي كان يدفعها أمامه في طرقات المتجر بما لذ وطاب وبأشياء لم يكن في حسبانه أن يشتريها، ولكنه كان سعيدا منتشيا حتى تقدم للمحاسبة، وأخذ موظف الخزينة يحصي مشترياته بآلته الحاسبة، بينما يقوم زميل له بتعبئة تلك المشتريات في عبوات مختلفة حسب نوعياتها، ودون أن يلتفت إليه أو يرفع عينيه عن شاشة آلته، قال المحاسب:

- ألف وستمية أتنين وتمانين يابيه.

لم يفاجأ خيري ولم يبد اهتماما، مد يده في جيب سترته الداخلي الأيمن، فالأيسر، ثم الجيوب الخارجية، فجيوب البنطال، كلها خالية تماما، لقد سرقوه، بل جردوه، ترى من هم؟

إنه هو، ذلك الشاب المسكين الذي تبادل معه الصفات دون أن يشعر ودون أن يأخذ له رأيا، فمضى بريئا سعيدا، وتركه حزينا مسكينا.

كان كل ما يشغله ألا يراه من كانوا متجمعين حول الشاب يضربونه حتى خلصه من أيديهم، أطل برأسه خارج باب المتجر، لم ير منهم أحدا، هرول إلى حيث ترك سيارته في الجهة المقابلة، لم يجدها، تحسس جيوبه مرة أخرى، أين مفتاح السيارة؟ لقد فهم الآن.

جرى كالمجنون في اتجاه لا يدري مؤداه، كل من رآه وعرف حكايته تعجب واندهش، وجرى وراءه .... ليعرف نهاية القصة.

الرئيسية

Comments